فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ولذلك أقول دائمًا للمُتمرِّدين على الإيمان بالله؛ لقد أَلِفْتم التمرّد على الله؛ ولم يَأْبَ طَبْع واحد منكم على رفض التمرّد، فإنْ كنتم صادقين مع أنفسكم عليكم أنْ تتمردوا على التنفس؛ فهو أمر لا إرادي، أو تمردوا- إن استطعتُم- على المرض وميعاد الموت، ولن تستطيعوا ذلك أبدًا.
ولكنهم ألِفُوا التمرّد على ما يمكنهم الاختيار فيه. ونسُوا أن الله يريد منهم أن يلتزموا بمنهجه؛ فإن اختار المؤمن أن يتبع منهجَ الله صار من عباد الله، وإنْ لم يخضع للمنهج فيما له فيه اختيار فهو من العبيد المقهورين على اتباع أوامر الله القهرية فقط.
وأنت حين تستقرئ كلمة عباد وكلمة عبيد في القرآن ستجد قول الحق سبحانه: {وَعِبَادُ الرحمن الذين يَمْشُونَ على الأرض هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَمًا} [الفرقان: 63].
وتتعدد هنا صفات العباد الذين اختاروا اتباع منهج الله، وستجد كلمة العبيد وهي مُلْتصقة بمَنْ يتمردون على منهج الله؛ ولن تجد وَصْفًا لهم بأنهم عباد إلا في آية واحدة؛ حين يخاطب الحَقُّ جَلَّ وعلا الذين أضلوا الناس؛ فيقول لهم: {أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاَءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السبيل} [الفرقان: 17].
ونلحظ أن زمن هذا الخطاب هو في اليوم الآخر؛ حيث لا يوجد لأحد مُرْتاد مع الله؛ وحيث يسلب الحق سبحانه كل حق الاختيار من كل الكائنات المختارة.
وهكذا لا يمكن لأحد أن يطعنَ في أن كلمة عباد إنما تستخدم في وَصْف الذين اختاروا عبادة الله والالتزام بمنهجه في الحياة الدنيا؛ ذلك أنهم قد سَلَّموا زِمَام اختيارهم لله، وأطاعوه في أوامره ونواهيه.
ونلحظ أن قول الحق سبحانه: {قُل لِّعِبَادِيَ الذين آمَنُواْ يُقِيمُواْ الصلاة وَيُنْفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً..} [إبراهيم: 31].
هو أمر صادر من الحق سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم، وأن المؤمنين في انتظار هذا الأمر لِيُنفّذوه فورًا، ذلك أن المؤمن يحب أن يُنفِّذ كل أمر يأتيه من الله.
وما دُمَتْ قد أبلغتهم يا محمد هذا الأمر فسيُنفّذونه على الفور؛ وقد جاء قوله: {يقيموا} محذوفًا منه لام الأمر، تأكيدًا على أنهم سيصعدون لتنفيذ الأمر فوْر سماعه.
وعادة نجد أن إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة في جَمْهرة آيات القرآن تأتيان متتابعتين مع بعضهما؛ لأن إقامة الصلاة تتطلب حركة، تتطلب طاقة وتأخذ وقودًا؛ والوقود يتطلب حركة ويأخذ زمنًا، والزكاة تعني أن تُخرِج بعضًا من ثمرة الزمن، وبعضًا من أثر الحركة في الوقت.
ونجد الكسالى عن الصلاة يقولون: إن العمل يأخذ كل الوقت والواحد منّا يحاول أن يجزع الصلوات إلى آخرالنهار، ويُؤدّيها جميعها قَضاءً. وهم لا يلتفتون إلى أن كُلَّ فرض حين يُؤدَّي في ميعاده لن يأخذ الوقت الذي يتصورون أنه وقت كبير.
وظاهر الأمر أن الصلاة تُقلّل من ثمرة العمل، لكن الحقيقة أنها تُعطي شحنة وطاقة تحفِز النفس على المزيد من إتقان العمل؛ وكيف يُقِبل المصلى على العملَ بنفس راضية؛ ذلك أنه بالصلاة قد وقف في حضرة مَنْ خلقه، ومَنْ رزقه، ومَنْ كفله.
ولذلك يخرج منها هادئًا مُطمئنًا مُنتبهًا راضيًا؛ وذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أرحنا بها يا بلال».
والصلاة في كل فرض؛ لن تأخذ أكثر من ربع الساعة بالوضوء، وإذا نسبت وقت الصلوات كلها إلى وقت العمل ستجد أنها تأخذ نسبة بسيطة وتعطي بأكثر مِمّا أخذت.
وكذلك الزكاة قدتأخذ منك بعضًا من ثمرة الوقت لتعطيه إلى غير القادر، ولكنها تمنحك أمانًا اجتماعيًا فوق ما تتخيّل.
ولذلك تجد الصلاة مُرتبطة بالزكاة في آيات القرآن ببعضهما، وإقامة الصلاة هي جِمَاع القيم كلها؛ وإيتاء الزكاة جِمَاع قيام الحركات العضلية كلها.
وتعالج الصلاة شيئًا، وتعالج الزكاة شيئًا آخر؛ وكلاهما تُصِلح مكونات ماهية الإنسان؛ الروح ومقوماتها، والجسد ومقوماته.
ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: «وجُعِلَتْ قُرة عيني في الصلاة».
وحين تنظر إلى الصلاة والزكاة تجد مصالح الحياة مجتمعة وتتفرع منهما؛ ذلك أن مصالح الحياة قد جمعها صلى الله عليه وسلم في الأركان الخمس للدين، وهي شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحِجّ البيت لِمَنِ استطاع إليه سبيلا.
وعرفنا من قَبْل كيف أخذت الصلاة كُل هذه الأركان مجتمعة؛ ففيها شهادة أن لا إله إلا الله، وفيها تضحية وتزكية ببعض الوقت؛ وفيها صَوْم عن كل ما يلتزم به وأنت صائم؛ وأنت تتوجه خلالها إلى قبلة بيت الله الحرام.
وهكذا نرى كيف ترتبط حركة الحياة والقيم المُصْلِحة لها بالصلاة والزكاة.
ويأمرنا الحق سبحانه في هذه الآية الكريمة بأن ننفق سرًا وعلانية، وهكذا يشيع الحق الإنفاق في أمرين متقابلين؛ فالإنفاق سِرًا لا يقع الإنسان فريسة المُبَاهاة؛ والإنفاق عَلنًا كي يعطي غيره من القادرين أُسْوة حسنة، ولكي تمنع الآخرين من أنْ يتحدثوا عنك بلهجة فيها الحسد والغَيْرة مما أفاء الله عليك من خير.
ولذلك أقول: اجعل الصدقة التطوعية سِرًا، واجعلها كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تعلم شمالك ما أعطتْ يمينك».
واجعل الزكاة علانية حتى يعلمَ الناس أنك تُؤدي ما عليك من حقوق الله وتكون بالنسبة لهم أُسْوة فعلية، وعِظَة عملية، واجعلوا من أركان الإسلام عِظَة سلُوكية، فنحن نرى بعضًا من القرى والمدن لا يحجّ منها أحد، لأن القادرين فيها قد أَدَّوْا فريضة الحج.
ونجد أن القادر الذي يبني مسجدًا؛ يعطي القادر غيره أُسْوة ليبني مسجدًا آخر، وما أنْ يأتيَ رمضان حتى يصومَ القادرون عليه؛ ويعطوا أُسْوة لصغارهم، وتمنع الاستخذاء أمام الغير، وهكذا نعلن كل تكاليف الإسلام بوضوح أمام المجتمعات كلها.
ويقول الحق سبحانه: {قُل لِّعِبَادِيَ الذين آمَنُواْ يُقِيمُواْ الصلاة وَيُنْفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلاَلٌ} [إبراهيم: 31].
ومن هنا نعلم أن هناك أعمالًا يمكن أن تؤجلها، إلا الغايات التي لا توجد فيها أعواض؛ فعليك أن تنتهز الفرصة وتُنفّذها على الفور؛ ذلك أن اليوم الآخر لن يكون فيه بَيْع أو شراء، ولن يستطيع أحد فيه أن يُزكّي أو يُصلّي؛ فليست هناك صداقة أو شفاعة تُغنيك عمّا كان يجب أن تقوم به في الحياة الدنيا.
والشفاعة فقط هي ما أذن له الرحمن بها، ولذلك يأتي الأمر هنا بسرعة القيام بالصلاة وإيتاء الزكاة والإنفاق سِرًا وعلانية من قبل أن يأتيَ اليوم الذي لا بَيْع فيه ولا خِلاَل.
والبيع- كما نعلم- هو مُعَارضة متقابلة؛ فهناك مَنْ يدفع الثمن؛ وهناك مَنْ يأخذ السلعة. والخِلاَل هو المُخالّة؛ أي: الصديق الوفيّ الذي تلزمه ويلزمك.
والشعر يُبيّن معنى كلمة خليل حين يقول:
لَمّا التقيْنَا قرَّب الشَّوْقُ جَهْده ** خليلين ذَابَا لَوْعةً وعِتاَبا

كأنّ خليلًا في خِلاَل خَلِيلهِ ** تَسرَّبَ أثناءَ العِنَاقِ وغَابَا

وهذا يوضح أن المُخالة تعني أن يتخلل كُلٌّ منهما الآخر.
وفي الآخرة لن تستطيع أن تشتري جنة أو تفتدي نفسك من النار؛ ولا مُخالًّة هناك بحيث يفيض عليك صديق من حسناته. والحق سبحانه هو القائل: {الأخلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ المتقين} [الزخرف: 67].
وبعض السطحيين يريدون أنْ يأخذوا على القرآن أنه أثبت الخُلَّة ونفاها؛ فهو القائل: {لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلاَلٌ} [إبراهيم: 31].
وهو القائل: {وَلاَ خُلَّةٌ...} [البقرة: 254].
ثم أثبت الخُلَّة للمتقين؛ الذين لا يُزيِّن أحدهما للآخر معصية.
وهؤلاء السطحيون لا يُحسِنون تدبُّر القرآن؛ ذلك أن الخُلَّة المَنْفية- أو الخِلاَل المنفية- في الآيات هي الخِلال التي تحضُّ على المعاصي؛ وهذه هي الخِلاَل السيئة.
ونعلم أن البيع في الحياة الدنيا يكون مقابلةَ سلعة بثمن؛ أما المُخالّة ففيها تكرُّم ممَّنْ يقدمها؛ وهو أمرٌ ظاهريّ؛ لأن في باطنه مُقايضة؛ فإذا قدّم لك أحدٌ جميلًا فهذا يقتضي أنْ تردّ له الجميل؛ أما التكرُّم المجرّد فهو الذي يكون بغير سابق أو لاحق. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
{قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ (31)}.
قوله تعالى: {قُل لِّعِبَادِيَ الذين آمَنُواْ يُقِيمُواْ} فيه أوجهٌ، أحدُها: أنَّ {يُقيموا} مجزومٌ بلامِ أمرٍ محذوفةٍ تقديرُه: ليقيموا، فحُذِفَتْ وبقي عملُها، كما يُحْذَفُ الجارُّ ويبقى عملُه، كقولِه:
محمدُ تَفْدِ نفسَك كلُ نفسٍ ** إذا ما خِفْتَ مِنْ شيءٍ تَبالا

يريد: لِتَفْدِ. أنشده سيبويه، إلا أنَّه خَصَّه بالشعر. قال الزمخشري: ويجوزُ أن يكونَ {يُقيموا} و{يُنْفِقوا} بمعنى: لِيُقيموا ولِيُنْفقوا، ويكون هذا هو المَقُولَ. قالوا: وإنما جاز حَذْفُ اللامِ لأنَّ الأمرَ الذي هو {قُلْ} عِوَضٌ منها، ولو قيل: يقيموا الصلاة ويُنفقوا ابتداءً بحذف اللام لم يَجُزْ. قلت: وإلى قريبٍ من هذا نحا ابن مالك فإنه جَعَلَ حَذْفَ هذه اللامِ على أضربٍ: قليلٍ وكثيرٍ ومتوسطٍ. فالكثيرُ: أن يكونَ قبلَه قولٌ بصيغة الأمر كالآيةِ الكريمةِ، والقليلُ: أن لا يتقدَّمَ قولٌ كقوله:
محمدُ تَفْدِ...................

البيت.
والمتوسط: أن يتقدَّمَ بغيرِ صيغةِ الأمرِ كقوله:
قُلْتُ لبَوَّابٍ لديهِ دارُها ** تِيْذَنْ فإني حَمْؤُها وجارُها

الثاني: أنَّ {يُقيموا} مجزوم على جوابِ {قُلْ}، وإليه نحا الأخفش والمبرد. وقد رَدَّ الناسُ عليهما هذا بأنه لا يلزمُ مِنْ قوله لهم: أقيموا أَنْ يَفْعلوا، وكم مَنْ تخلَّف عن هذا الأمر. وقد أجيب عن هذا: بأنَّ المرادَ بالعباد المؤمنون، ولذلك أضافهم إليه تشريفًا، والمؤمنون متى أَمَرَهم امْتَثَلُوا.
الثالث: أنه مجزومٌ على جوابِ المقولِ المحذوفِ تقديره: قل لعبادي: أقيموا وأَنْفِقُوا، يُقيموا وينفقوا. قال أبو البقاء: وعزاه للمبرد- كذا ذكره جماعة ولم يتعرَّضوا لإِفسادِه. وهو فاسد لوجهين، أحدُهما: أنَّ جوابَ الشرطِ يُخالِفُ الشرطَ: إمَّا في الفعلِ أو في الفاعل أو فيهما، فأمَّا إذا كان مثلَه في الفعلِ والفاعلِ فهو خطأٌ كقولِك: قم تقمْ، والتقديرُ على ما ذُكِرَ في هذا الوجه: إنْ يُقيموا يُقيموا. والوجه الثاني: أنَّ الأمرَ المقدَّرَ للمواجهة، و{يُقيموا} على لفظ الغَيْبَةِ وهو خطأٌ، إذا كان الفاعل واحدًا. قلت: أمَّا الإِفسادُ الأولُ فقريبٌ، وأمَّا الثاني فليس بشيء؛ لأنه يجوز أن يقول: قل لعبدي أَطِعْني يُطِعْك، وإن كان للغَيْبة بعد المواجهة باعتبارِ حكايةِ الحال.
الرابع: أنَّ التقديرَ: إن تَقُلْ لهم: أقيموا، يُقيموا، وهذا مَرْوِيٌّ عن سيبويه فيما حكاه ابن عطية. قلت: وهذا هو القولُ الثاني.
الخامس: قال ابن عطية: ويحتمل أن يكونَ {يُقيموا} جوابَ الأمرِ الذي يعطينا معناه قوله: {قُلْ}؛ وذلك أن تجعلَ قوله: {قُلْ} في هذه الآيةِ بمعن بَلّغْ وأَدِّ الشريعةَ يُقيموا.
السادس: قال الفراء: الأمرُ معه شرطٌ مقدَّرٌ تقول: أَطِعِ اللهَ يُدْخِلْكَ الجنَّةَ.
والفرقُ بين هذا وبين ما قبله: أنَّ ما قبله ضُمِّن فيه الأمرُ نفسُه معنى الشرط، وفي هذا قُدر فعلُ الشرطِ بعد فعلِ الأمرِ مِنْ غيرِ تضمينٍ.
السابع: قال الفارسيُّ: إنَّه مضارعٌ صُرِف عن الأمرِ إلى الخبرِ ومعناه: أقيموا. وهذا مردودٌ؛ لأنه كان ينبغي أن يُثْبِتَ نونَه الدالَّةَ على إعرابه. وأُجيبَ عن هذا بأنه بُني لوقوعِه موقعَ المبني، كما بُني المنادى في نحو: يا زيدُ لوقوعِه موقعَ الضمير، ولو قيل بأنه حُذِفَتْ نونُه تخفيفًا على حَدِّ حَذْفها في قولِه: «لا تَدْخُلوا الجنَّة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابُّوا».
وفي معمول {قُلْ} ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: الأمرُ المقدَّرُ، أي: قُلْ لهم: أقيموا، يُقيموا، الثاني: أنه نفسُ {يُقيموا} على ما قاله ابنُ عطية الثالث: أنَّه الجملةُ من قوله: {الله الذي خَلَقَ} إلى آخره، قاله ابن عطية. وفيه تفكيكٌ للنَّظْم، وجَعْلُ الجملةِ {يُقيموا الصلاة} إلى آخره مُفلتًا ممَّا قبلَه وبعدَه، أو يكونُ جوابًا فَصَل بين القولِ ومعمولِه، لكنه لا يترتَّبُ على قولِ ذلك إقامةُ الصلاةِ والإِنفاقُ، إلا بتأويلٍ بعيدٍ جدًا.
قوله: {سِرًّا وعلانِيَةً} في نصبِهِما ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُهما: أنهما حالان ممَّا تقدَّم، وفيهما ثلاثةُ التأويلاتِ في زيد عَدْل، أي: ذوي سر وعلانية أو مُسِرِّين ومُعْلِنين، أو جُعِلوا نفسَ السِّرِّ والعَلانية مبالغةً. الثاني: أنهما منصوبان على الظرف، أي: وَقْتَيْ سِرٍّ وعلانية. الثالث: أنهما منصوبان على المصدرِ، أي إنفاق سرّ وإنفاق علانية.
قوله: {مِنْ قبل} متعلِّقٌ ب {يُقيموا} و{يُنْفِقوا}، أي: يفعلون ذلك قبل هذا اليوم.
وقد تقدَّم خلاف القراء في {لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلاَلٌ}. والخِلال: المُخالَّة وهي المصاحبةُ. يقال: خالَلْتُه خِلالًا ومُخَالَّةً. قال طرفة:
كلُّ خليلٍ كنتُ خالَلْتُه ** لا تَرَكَ اللهُ له واضِحَهْ

وقال امرؤ القيس:
صَرَفْتُ الهَوَى عنهنَّ مِنْ خشيةِ الرَّدى ** ولستُ بمَقْلِيِّ الخِلالِ ولا قالِ

وقال الأخفش: خِلال جمعًا لخُلَّة، نحو: بُرْمَة وبِرام. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
{قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ (31)}.
جعل الله راحةَ العبدِ- اليومَ- بكمالها في الصلاة؛ فإنَّها محلُّ المناجاة، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «أَرِحَنا يا بلال بالصلاة» والصلاة استفتاح باب الرزق، قال تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَواةِ واصْطَبِرْ عَليْهَا لاَ نَسْئَلُكَ رِزْقًا} [طه: 132].
وفي الصلاة يبث العبد أسرارَه مع الحق؛ فإذا كان لقاءُ الإخوان- كما قالوا- مَسْلاَةً لهم كيف بمناجاتك مع الله، ونشر قصتك بين يديه؟ كما قيل:
قُلْ لي بألسنة التَنَفُّسِ ** كيف أنت وكيف حالك؟

{وَيُنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُم}: أمرهم بإنفاق اللسان على ذكره، وإنفاق البَدَنِ على طاعته، والوقتَ على شكره، والقلبَ على عرفانه، والروح على حبه، والسِّرَّ على مشاهدته.. ولا يكلِّف الله نَفْسًا إلا ما آتاها، وإنما يطالبك بأن نحضر إلى الباب، وتقف على البساط بالشاهد الذي آتاك.. يقول العبد المسكين: لو كان لي نَفْسٌ أطوع من هذه لأَتَيْتُ بها، ولو كان لي قلبٌ أشذُّ وفاءً من هذا لَجُدْتُ به، وكذلك بروحي وسِرِّي، وقيل:
يفديك بالروح صَبٌّ لو أنَّ له ** أعز من روحه شيئًا فداك به

{مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ يَومٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلاَلٌ}: وفي هذا المعنى أنشدوا:
قلتُ للنَّفس إنْ أردتِ رجوعًا ** فارجعي قبل أن يُسدَّ الطريق

. اهـ.